كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ، رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي آخَرِينَ.
وَرَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْمُتْعَةَ بِالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالْعِدَّةِ وَالْمِيرَاثِ».
وَرَوَى عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُمَيْسٍ عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ عَامَ أَوْطَاسٍ ثُمَّ نَهَى عَنْهَا» وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَلْخِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ وَمَا كُنَّا مُسَافِحِينَ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ: «وَمَا كُنَّا مُسَافِحِينَ» يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُسَافِحِينَ حِينَ أُبِيحَتْ لَهُمْ الْمُتْعَةُ، يَعْنِي أَنَّهَا لَوْ لَمْ تُبَحْ لَمْ يَكُونُوا لِيُسَافِحُوا، وَنَفَى بِذَلِكَ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّهَا أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ كَالْمِيتَةِ وَالدَّمِ ثُمَّ نُهِيَ عَنْهَا بَعْدُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِيَفْعَلُوا ذَلِكَ بَعْدَ النَّهْيِ فَيَكُونُوا مُسَافِحِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي حَالِ الْإِبَاحَةِ مُسَافِحِينَ بِالتَّمَتُّعِ؛ إذْ كَانَتْ مُبَاحَةً.
وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدِّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَتَذَاكَرْنَا مُتْعَةَ النِّسَاءِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ رَبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي أَنَّهُ حَدَّثَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ».
وَرَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَامَ الْفَتْحِ؛ وَرَوَاهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ مِثْلَهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ عَامَ الْفَتْحِ؛ وَرَوَاهُ أَنَسُ بْنُ عِيَاضِ اللَّيْثِيِّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ مِثْلَهُ، وَقَالَ: كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
فَلَمْ تَخْتَلِفْ الرُّوَاةُ فِي التَّحْرِيمِ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّارِيخِ، فَسَقَطَ التَّارِيخُ كَأَنَّهُ وَرَدَ غَيْرَ مُؤَرَّخٍ، وَثَبَتَ التَّحْرِيمُ لِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ عَلَيْهِ.
وَرَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ».
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نَاجِيَةٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الرَّازِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «خَرَجَ النِّسَاءُ اللَّاتِي اسْتَمْتَعْنَا بِهِنَّ مَعَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُنَّ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْأَخْبَارُ مُتَضَادَّةٌ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَهَا لَهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَامَ الْفَتْحِ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَخَيْبَرُ كَانَتْ قَبْلَ الْفَتْحِ وَقَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَكَيْفَ تَكُونُ مُبَاحَةً عَامَ الْفَتْحِ أَوْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَقَدْ حُرِّمَتْ قَبْلَ ذَلِكَ عَامَ خَيْبَرَ؟ قِيلَ لَهُ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَدِيثَ سَبْرَةَ مُخْتَلَفٌ فِي تَارِيخِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَامَ الْفَتْحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ؛ وَفِي كِلَا الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَهَا فِي تِلْكَ السَّفْرَةِ ثُمَّ حَرَّمَهَا، فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ الرُّوَاةُ فِي تَارِيخِهِ سَقَطَ التَّارِيخُ وَحَصَلَ الْخَبَرُ غَيْرَ مُؤَرَّخٍ، فَلَا يُضَادُّ حَدِيثَ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَى تَارِيخِهِ أَنَّهُ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ ثُمَّ أَحَلَّهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَوْ فِي فَتْحِ مَكَّةَ ثُمَّ حَرَّمَهَا، فَيَكُونُ التَّحْرِيمُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ مَنْسُوخًا بِحَدِيثِ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ، ثُمَّ تَكُونُ الْإِبَاحَةُ مَنْسُوخَةً بِمَا فِي حَدِيثِ سَبْرَةَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ.
فَإِنْ قِيلَ: رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَسْتَخْصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ وَرَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ بِالثَّوْبِ إلَى أَجَلٍ، ثُمَّ قَالَ: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الْآيَةَ».
قِيلَ لَهُ: هَذِهِ الْمُتْعَةُ هِيَ الَّتِي حَرَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَائِرِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَلَمْ نُنْكِرْ نَحْنُ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ أُبِيحَتْ فِي وَقْتٍ ثُمَّ حُرِّمَتْ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ذِكْرُ التَّارِيخِ، فَأَخْبَارُ الْحَظْرِ قَاضِيَةٌ عَلَيْهَا لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ الْحَظْرِ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ؛
وَأَيْضًا لَوْ تَسَاوَيَا لَكَانَ الْحَظْرُ أُولَى لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ؛ وَأَمَّا تِلَاوَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ عِنْدَ إبَاحَةِ الْمُتْعَةِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ النَّهْيَ عَنْ الِاسْتِخْصَاءِ وَتَحْرِيمَ النِّكَاحِ الْمُبَاحِ، وَيَحْتَمِلُ الْمُتْعَةَ فِي حَالِ مَا كَانَتْ مُبَاحَةً.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّه أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْمِيرَاثِ؛ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي وَقْتٍ، فَلَوْ كَانَتْ الْإِبَاحَةُ بَاقِيَةً لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهَا مُسْتَفِيضًا مُتَوَاتِرًا لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَلَعَرَفَتْهَا الْكَافَّةُ كَمَا عَرَفَتْهَا بَدِيًّا وَلَمَا اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى تَحْرِيمِهَا لَوْ كَانَتْ الْإِبَاحَةُ بَاقِيَةً، فَلَمَّا وَجَدْنَا الصَّحَابَةَ مُنْكَرِينَ لِإِبَاحَتِهَا مُوجِبِينَ لَحَظْرِهَا مَعَ عِلْمِهِمْ بَدِيًّا بِإِبَاحَتِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى حَظْرِهَا بَعْدَ الْإِبَاحَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا كَانَ مُبَاحًا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي إبَاحَتِهِ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَلْوَاهُمْ بِالْمُتْعَةِ لَوْ كَانَتْ مُبَاحَةً كَبَلْوَاهُمْ بِالنِّكَاحِ فَالْوَاجِبُ إذًا أَنْ يَكُونَ وُرُودُ النَّقْلِ فِي بَقَاءِ إبَاحَتِهَا مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِفَاضَةِ.
وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ رُوِيَ عَنْهُ تَجْرِيدُ الْقَوْلِ فِي إبَاحَةِ الْمُتْعَةِ غَيْرَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ حِينَ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ تَحْرِيمُهَا بِتَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ مِنْ جِهَةِ الصَّحَابَةِ؛ وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي الصَّرْفِ وَإِبَاحَتِهِ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ تَحْرِيمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُ وَتَوَاتَرَتْ عِنْدَهُ الْأَخْبَارُ فِيهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ وَصَارَ إلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ، فَكَذَلِكَ كَانَ سَبِيلُهُ فِي الْمُتْعَةِ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ عَرَفَتْ نَسْخَ إبَاحَةِ الْمُتْعَةِ، مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَأُعَاقِبُ عَلَيْهِمَا وَقَالَ فِي خَبَرٍ آخَرَ: لَوْ تَقَدَّمْت فِيهَا لَرَجَمْت، فَلَمْ يُنْكِرْ هَذَا الْقَوْلَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ، لاسيما فِي شَيْءٍ قَدْ عَلِمُوا إبَاحَتَهُ وَأَخْبَارَهُ بِأَنَّهُمَا كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ عَلِمُوا بَقَاءَ إبَاحَتِهَا فَاتَّفَقُوا مَعَهُ عَلَى حَظْرِهَا، وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونُوا مُخَالِفِينَ لِأَمْرٍ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِيَانًا، وَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ فَغَيْرُ جَائِزٍ مِنْهُمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى الْكُفْرِ وَإِلَى الِانْسِلَاخِ مِنْ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ إبَاحَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُتْعَةِ ثُمَّ قَالَ هِيَ مَحْظُورَةٌ مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ لَهَا فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْمِلَّةِ.
فَإِذَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا حَظْرَهَا بَعْدَ الْإِبَاحَةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرُوهُ، وَلَوْ كَانَ مَا قَالَ عُمَرُ مُنْكَرًا وَلَمْ يَكُنْ النَّسْخُ عِنْدَهُمْ ثَابِتًا لَمَا جَازَ أَنْ يُقَارُّوهُ عَلَى تَرْكِ النَّكِيرِ عَلَيْهِ؛ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى نَسْخِ الْمُتْعَةِ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ حَظْرُ مَا أَبَاحَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مِنْ طَرِيقِ النَّسْخِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ، أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا عَلَى اسْتِبَاحَةِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ، فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ تِلْكَ الْمَنَافِعِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ الْعُقُودِ عَلَى الْمَمْلُوكَاتِ مِنْ الْأَعْيَانِ وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِعُقُودِ الْإِجَارَاتِ الْوَاقِعَةِ عَلَى مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ أَلَا تَرَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يَصِحُّ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ مُدَّةٍ مَذْكُورَةٍ لَهُ وَأَنَّ عُقُودَ الْإِجَارَاتِ لَا تَصِحُّ إلَّا عَلَى مُدَدٍ مَعْلُومَةٍ أَوْ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ؟ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ حُكْمَ الْعَقْدِ عَلَى مَنَافِعِ الْبُضْعِ أَشْبَهَ عُقُودَ الْبِيَاعَاتِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا إذَا عُقِدَتْ عَلَى الْأَعْيَانِ، فَلَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ مُوَقَّتًا كَمَا لَا يَصِحُّ وُقُوعُ التَّمْلِيكَاتِ فِي الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ مُوَقَّتَةً، وَمَتَى شُرِطَ فِيهِ التَّوْقِيتُ لَمْ يَكُنْ نِكَاحًا فَلَا تَصِحُّ اسْتِبَاحَةُ الْبُضْعِ كَمَا لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إذَا شُرِطَ فِيهِ تَوْقِيتُ الْمِلْكِ، وَكَذَلِكَ الْهِبَاتُ وَالصَّدَقَاتُ؛ وَلَا يَمْلِكُهُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ مِلِكًا مُوَقَّتًا؛ وَكَذَلِكَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ لِمَا جَرَتْ مَجْرَى الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ لَمْ يَصِحَّ فِيهَا التَّوْقِيتُ.
وَمِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي وَقْتٍ مِنْ الزَّمَانِ ثُمَّ اخْتَلَفْنَا فِي الْحَظْرِ، فَنَحْنُ ثَابِتُونَ عَلَى مَا حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ وَلَا نُزُولَ عَنْهُ بِالِاخْتِلَافِ.
فَيُقَالُ لَهُمْ: الْأَخْبَارُ الَّتِي بِهَا تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ بِهَا يَثْبُتُ الْحَظْرُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ خَبَرٍ ذُكِرَ فِيهِ إبَاحَةُ الْمُتْعَةِ ذُكِرَ فِيهِ حَظْرُهَا، فَمِنْ حَيْثُ تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ الْحَظْرُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْحَظْرُ لَمْ تَثْبُتْ الْإِبَاحَةُ؛ إذْ كَانَتْ الْجِهَةُ الَّتِي بِهَا تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ بِهَا وَرَدَ الْحَظْرُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: إنَّا لَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى كَذَا ثُمَّ اخْتَلَفْنَا فِيهِ لَمْ نُزَلِ عَنْ الْإِجْمَاعِ بِالِاخْتِلَافِ قَوْلٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ الْخِلَافُ لَيْسَ هُوَ مَوْضِعُ الْإِجْمَاعِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا فَلابد مِنْ دَلَالَةٍ يُقِيمُهَا عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مُبَاحًا فِي وَقْتٍ غَيْرُ مُوجِبٍ بَقَاءَ إبَاحَتِهِ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى ثُبُوتِ الْحَظْرِ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ مِنْ ظَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي الْمُتْعَةِ وَحُكْمِهَا فِي التَّحْرِيمِ مَا فِيهِ بَلَاغٌ لِمَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ، وَلَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا؛ وَقَدْ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ مَعَ ذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً أَيَّامًا مَعْلُومَةً، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَشْرَةَ أَيَّامٍ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ زُفَرُ: النِّكَاحُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَلَيْسَ ثَمَّ شَرْطٌ فَلَا خَيْرَ فِي هَذَا، هَذَا مُتْعَةٌ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ زُفَرَ أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَصِحُّ بِلَفْظِ الْمُتْعَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَتَمَتَّعُ بِك عَشْرَةَ أَيَّامٍ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنِكَاحٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إذَا عَقَدَهُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ فَقَالَ: أَتَزَوَّجُك عَشْرَةَ أَيَّامٍ فَجَعَلَهُ زُفَرُ نِكَاحًا صَحِيحًا وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ فِيهِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا تُفْسِدُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَتَزَوَّجُك عَلَى أَنْ أُطَلِّقَك بَعْدَ عَشْرَةِ أَيَّامٍ كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا وَالشَّرْطُ بَاطِلًا؛ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ زُفَرَ فِي أَنَّ هَذَا نِكَاحٌ أَوْ مُتْعَةٌ؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هَذَا مُتْعَةٌ وَلَيْسَ بِنِكَاحٍ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ النِّكَاحَ إلَى أَجَلٍ هُوَ مُتْعَةٌ وَإِنْ لَمْ يَلْفِظْ بِالْمُتْعَةِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ بْنُ مَيْمُونِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ «أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حَتَّى نَزَلُوا عُسْفَانَ؛ وَذَكَرَ قِصَّةَ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ بِالْإِحْلَالِ بِالطَّوَافِ إلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ؛ قَالَ: فَلَمَّا أَحْلَلْنَا قَالَ: اسْتَمْتِعُوا مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ وَالِاسْتِمْتَاعُ التَّزْوِيجُ عِنْدَنَا، فَعَرْضنَا ذَلِكَ عَلَى النِّسَاءِ فَأَبَيْنَ إلَّا أَنْ نَضْرِبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُنَّ أَجَلًا، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: افْعَلُوا».
فَخَرَجْت أَنَا وَابْنُ عَمِّي وَأَنَا أَشَبُّ مِنْهُ وَمَعِي بُرْدٌ وَمَعَهُ بُرْدٌ، فَأَتَيْنَا امْرَأَةً فَأَعْجَبَهَا بُرْدُهُ وَأَعْجَبَهَا شَبَابِي، فَقَالَتْ: بُرْدٌ كَبُرْدٍ وَهَذَا أَشَبُّ؛ وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا عَشْرٌ فَبِتّ عِنْدَهَا لَيْلَةً ثُمَّ أَصْبَحْت فَخَرَجْت إلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي كُنْت أَذِنْت لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ، أَلَا وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ بَقِيَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا».
فَأَخْبَرَ سَبْرَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ كَانَ التَّزْوِيجَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ رَخَّصَ لَهُمْ فِي تَوْقِيتِ الْمُدَّةِ فِيهِ ثُمَّ نَهَى عَنْهُ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ إلَى أَجَلٍ هُوَ مُتْعَةٌ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَسْتَخْصِي؟
فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ وَرَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ بِالثَّوْبِ إلَى أَجَلٍ، ثُمَّ قَرَأَ: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}»
فَأَخْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ الْمُتْعَةَ كَانَتْ نِكَاحًا إلَى أَجَلٍ.